تخطى الى المحتوى

إعادة التموضع الروسي بالساحل.. من فاغنر إلى الفيلق الإفريقي

جدول المحتويات

مقدمة

أعلنت مجموعة “فاغنر” عبر قناتها على تليغرام في 6 يونيو 2025 انتهاء وجودها في مالي. وفي اليوم نفسه، أكد “الفيلق الإفريقي” أن “روسيا لا تخسر مواقعها”، وأعلن أن مقاتليه يدخلون مرحلة عملياتية نشطة في المنطقة، مقدمين دعما أكبر لباماكو.

 

ويأتي الانسحاب الرسمي لقوات “فاغنر” بعد أكثر من 3 سنوات من العمليات المشتركة مع الحكومة المالية، سعت خلالها إلى ملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة.

 

وبالنظر إلى ارتباط “فاغنر” الوثيق بالمخابرات العسكرية الروسية، فإنها اندمجت في القوات المسلحة المالية، مما يعكس النفوذ الروسي، ويساهم في عمليات مكافحة التمرد، ويعزز المكانة السياسية للجيش الحاكم. وتفيد عدة تقارير بأن وجود “فاغنر” في مالي شابته انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، بما في ذلك انتهاكات ضد المدنيين، مثل مذبحة “مورا” عام 2022.

 

لقد بدأ الكرملين بعد فشل تمرد “فاغنر” ضد فلاديمير بوتين في يونيو 2023 ووفاة مؤسسها يفغيني بريغوجين في حادث تحطم طائرة شهرين بعد ذلك، في بسط السيطرة بشكل رسمي على عمليات المجموعة شبه العسكرية المستقلة.

 

وبعد وقت قصير، تم إنشاء “الفيلق الإفريقي” ليحل محل “فاغنر” في دورها بالقارة الإفريقية، مما يوفر أداة للنفوذ الروسي أكثر رسمية، تخضع بشكل مباشر لسيطرة الدولة، من خلال تبعيتها لوزارة الدفاع، وترتبط ارتباطا وثيقا بالمديرية العامة لهيئة الأركان العامة، مهمتها المعلنة تعزيز مواقف روسيا ونجاحاتها الدبلوماسية، من خلال الوسائل العسكرية في جميع أنحاء القارة الإفريقية وخارجها.

 

ويهدف هذا التقرير إلى تقديم لمحة عامة وتحليل لتطور الموقف الأمني الروسي فيما يتعلق بتحالف الساحل وإفريقيا ككل، مع التركيز على مالي، كما يدرس دمج “الفيلق الإفريقي” في البنيات العسكرية الإفريقية، واستراتيجيات التجنيد الروسية من القارة الإفريقية في ظل العام الرابع من الحرب مع أوكرانيا.

 

ويحلل التقرير عملية الانتقال والتحول من مجموعة “فاغنر” إلى نشر “الفيلق الإفريقي”، مستعرضا المشاركة الحالية لهذا الفيلق في النزاعات المستمرة ضد المتمردين، ونظرة الدبلوماسية الروسية ووسائل الإعلام إلى هذه العمليات.

 

وأخيرا، يدرس التقرير كيف تتوافق مبادرة موسكو لنشر “الفيلق الإفريقي”، وتعزيز دعمها للأنظمة العسكرية في منطقة الساحل، مع المصالح الاستراتيجية الروسية الأوسع في إفريقيا.

 

من فاغنر إلى الفيلق الإفريقي: إعادة تنظيم أم قطيعة استراتيجية؟

يُرسّخ انتقال “فاغنر” إلى “الفيلق الإفريقي” بشكل فعلي الوجود العسكري للدولة الروسية في القارة الإفريقية.

 

وتكشف وثائق التجنيد الرسمية المتاحة للعموم، أن نحو نصف عناصر الفيلق هم من قدامى محاربي “فاغنر”، كما تشير إلى أن الخدمة السابقة مع المجموعة شبه العسكرية تُعدّ ميزة إضافية، مع إعطاء الأفضلية للقادة السابقين.

 

وتشير مصادر أخرى إلى أن عدد قدامى محاربي الشركات العسكرية الخاصة داخل “الفيلق الإفريقي” قد يصل لما بين 70 و80%.

 

وخلافا لعملية إعادة ضبط الاستراتيجية، فإن “الفيلق الإفريقي” يعكس جهود الكرملين لإضفاء الطابع الرسمي على شبكة أصبحت مكلفة سياسيا، وتصعب السيطرة عليها، وتحقيق الاستقرار فيها. وما تزال الأهداف كما هي إلى حد كبير، لكن هذا الانتقال صاحبه تغيير كبير وهو نهاية سياسة الإنكار، فقد ظلت “فاغنر” تعمل في منطقة رمادية، وخارج البنية الرسمية، إذ كثيرا ما أنكر الكرملين صلاته بالشركات العسكرية الخاصة.

 

وفي الواقع فإن “الفيلق الإفريقي” الآن يجعل الدولة الروسية تتحمل رسميا مسؤولية سلوكه في ساحة المعركة، وجرائم الحرب المحتملة، والإخفاقات العملياتية على الأرض.

 

وفي ظل دخول صراعها مع أوكرانيا عامه الرابع، يبدو أن روسيا تواجه أزمة تجنيد كبيرة، وعلى الرغم من ذلك، فقد كثّفت وزارة الدفاع الروسية ووسّعت نطاق التجنيد لصالح تعزيز “الفيلق الإفريقي” منذ فبراير 2025.

 

وقد لوحظت جهود التجنيد هذه في جمهورية تتارستان، وهي منطقة ذات أغلبية مسلمة في روسيا. وفي إطار هذا البرنامج (التجنيد)، فإن المركز الإقليمي “باتير” تولى المسؤولية، واعدا بمكافآت مذهلة تصل إلى 2.5 مليون روبل، حوالي 18 مليون فرنك إفريقي، ورواتب شهرية تبدأ من 240 ألف روبل، حوالي 1.7 مليون فرنك إفريقي، لتشجيع سكان المناطق الروسية النائية والأقل ثراء على التجنيد.

 

لقد كان العديد من هؤلاء المجندين يفتقرون إلى الخبرة العسكرية، وكانوا يسعون للحصول على عقود في الحرب ضد أوكرانيا.

 

وهناك حالة استشهد بها مدير مركز التجنيد في “باتير”، تتعلق بشاب من إقليم “ألتاي” حاول الانضمام للقتال في “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، لكنه أُرغم على الانضمام إلى “الفيلق الإفريقي” والخدمة في مالي.

 

ويتوافق توسع التجنيد في “الفيلق الإفريقي” مع الجهود التي تبذلها روسيا لتعزيز وجودها العسكري في منطقة الساحل.

 

هل تتجه روسيا نحو وجود أمني مستدام بإفريقيا؟

عزز “الفيلق الإفريقي” حضوره العسكري في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وليبيا، وجمهورية إفريقيا الوسطى، مستغلا قواعد روسية مستحدثة في منطقة الساحل، منها قاعدة قرب مطار باماكو.

 

ووفقا لمصدر أمني مالي، فإن الفيلق يُوسّع عملياته أيضا بإنشاء نحو 30 قاعدة عسكرية وموقعا متقدما في جميع أنحاء البلاد.

 

وتُنقل المعدات العسكرية، بما في ذلك مركبات مدرعة من طراز (BTR-82A) ومدافع “هاوتزر” من طراز (Msta-B وD-30)  وطائرات استطلاع مُسيّرة، عبر ميناء كوناكري الغيني على متن سفن روسية خاضعة لعقوبات دولية، كما أن بعض المعدات بحسب تقارير، نقلت جوا من قاعدة “الخادم” الجوية الليبية.

 

وقد عززت روسيا قدرتها على شن غارات جوية بمالي عبر نشر قاذفة تكتيكية من طراز (Su-24M)  والتي أفادت تقارير بتحطمها في منتصف يونيو. وتم دمج “الفيلق الإفريقي” بشكل مباشر في البنية الأمنية للدولة المضيفة.

 

وتم في مالي نشر أفراد روس مع القوات المالية، يعملون انطلاقا من مراكز قيادة مشتركة، ويتم دمجهم في الوحدات الوطنية، كما يضطلعون بمهام التخطيط والتنسيق العملياتي، لا سيما في المناطق التي تشهد نشاطا للمتمردين.

 

وتشمل برامج التدريب الآن التدريب على الأسلحة، ومعالجة المعلومات الاستخبارية، وبروتوكولات الانضباط الداخلي المستوحاة بشكل كبير من أساليب “فاغنر” السابقة.

 

ويوجد عناصر “الفيلق الإفريقي” بشكل واضح حول المنشآت الرئيسية في باماكو، حيث يوفرون الحماية الشخصية لكبار المسؤولين العسكريين، ويعملون جنبا إلى جنب مع وحدات الدرك. وبناء على ذلك، فإن الانتشار الروسي يهدف إلى تقديم الدعم السياسي للحكومة التي يقودها الجيش، وتعزيز نفوذه على أمد طويل، سواء كان ذلك على حساب الديمقراطية أو احترام حقوق الإنسان.

 

وقد تكبد “الفيلق الإفريقي” في 12 من يونيو 2025، أول خسارة كبيرة له في ساحة المعركة، حيث تعرضت قافلة روسية – مالية كبيرة لكمين بالقرب من “أنومالان” على بعد 40 كيلومترا جنوب مدينة كيدال، على يد انفصاليين طوارق من جبهة تحرير أزواد، استهدفوها بعبوات ناسفة بدائية الصنع.

 

وأكدت وكالة “رويترز” اختفاء ما لا يقل عن 23 مقاتلا روسيا، معظمهم من قدامى المقاتلين في مجموعة “فاغنر” وسبق نشرهم في أوكرانيا وسوريا.

 

ونشرت “المبادرة الإفريقية” وهي وسيلة إعلام روسية مقربة من الكرملين، تقارير تفيد بأن أفرادا أوكرانيين كانوا يساعدون الجماعات المسلحة في مالي، بما في ذلك الطوارق، مستشهدة بوثائق وطائرات مسيرة يُزعم أن القوات المالية استعادتها.

 

وسبق أن صرّح المتحدث باسم جهاز الاستخبارات الدفاعية الأوكراني في يوليو 2024، بأن “المتمردين تلقوا المعلومات اللازمة، والتي مكّنت من تنفيذ عملية عسكرية ناجحة ضد مجرمي الحرب الروس” خلال معركة تينزاوتين، لكنه نفى تقديم طائرات مسيرة لهم.

 

وتُعدّ المزاعم الروسية بتورط أوكرانيا جزءا من جهود موسكو الواسعة لتصوير الغرب كقوة مزعزعة للاستقرار في منطقة الساحل.

 

وفضلا عن هدف ترسيخ روسيا التدريجي في البيئة الأمنية بمنطقة الساحل، فإن نشر “الفيلق الإفريقي” يؤثر أيضا على التوازن في سياق التنافس بين القوى على فضاء النفوذ الجديد المتمثل في منطقة الساحل.

 

وهكذا تتزايد مخاطر المواجهات بالوكالة بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو أعضائه، وبين روسيا في سياق غير مسبوق من إعادة التشكل الجيوسياسي.

 

الفيلق الإفريقي وإرث فاغنر: هل نتحدث عن ثقافة العنف؟

توثق تقارير منظمة “هيومن رايتس ووتش” انتهاكات تورطت فيها القوات المالية والعسكريون الروس منذ عام 2021، بما في ذلك عمليات إعدام جماعية واختفاء قسري وضربات عشوائية بطائرات مسيرة. ومن أبرز هذه الحالات ما حدث بـ”مورا” في مارس 2022، حيث قتل أكثر من 500 شخص خلال عملية مشتركة استمرت 5 أيام بين الجنود الماليين وقوات “فاغنر”.

 

وتوثق هذه التقارير استخدام أساليب استجواب غير قانونية وتعذيب، بما في ذلك الاحتجاز في حاويات شحن، والضرب بالكابلات والهراوات، وهي أساليب استخدمتها “فاغنر” في أوكرانيا وسوريا.

 

ويرى بعض منتقدي القوات المالية أنها تبدو غير راغبة، أو غير قادرة على احتواء الجناة الروس، الذين ينفذون عمليات اعتقالات وتعذيب تعسفية.

 

ويعتقد آخرون أن العناصر الروسية تبتز المعتقلين بشكل مستقل، في ظل غياب الرقابة القانونية من السلطات المالية، كما اتُهم القضاء العسكري في البلاد أحيانا بعدم اتخاذ إجراءات كافية إزاء الأخطاء الفادحة، وغيرها من التجاوزات خلال عمليات “فاغنر” لمكافحة الإرهاب.

 

كما ورد أنه (القضاء العسكري) يعرقل التحقيقات والدراسات المستقلة التي أشارت إلى حصانات يُزعم منحها للمرتزقة بموجب اتفاقيات سابقة.

 

وقد استغلت جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” هذه المظالم لأغراض التجنيد والدعاية، مُقدمة نفسها على أنها تحمي السكان المضطهدين، كما غذّت هذه الفظائع التي ارتكبت دون عقاب، انعدام ثقة المدنيين بالحكومة.

 

ويُمثل وضع “الفيلق الإفريقي” ككيان حكومي روسي رسمي، تجاوزا للغموض القانوني المحيط بـ”فاغنر”، نظرا لارتباطه المؤسسي بوزارة الدفاع الروسية.

 

ورغم كل الغموض الذي يكتنف هذا الإطار الجديد، فقد كان “الفيلق الإفريقي” بالفعل موضوعا للعديد من القرارات المهمة خارج منطقة الساحل.

 

فقد فرضت المملكة المتحدة عقوبات على هذا الكيان في نوفمبر 2024، واعتمد البرلمان الأوروبي قرارا بشأن حقوق الإنسان في يونيو 2025 يدعو إلى “المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب التي ارتكبتها مجموعة فاغنر / الفيلق الإفريقي”.

 

ورغم تغيير الوضع القانوني من شركة عسكرية خاصة إلى جماعة شبه عسكرية تابعة للدولة، ما يزال البعض يدين العنف ضد السكان المدنيين، والذي تعكس نوعا من الحصانة يُزعم أنها موروثة من مقاتلي “فاغنر” ولوجستياتها وشبكاتها.

 

الفيلق الإفريقي والمصالح الاستراتيجية الروسية في إفريقيا

تتحدد استراتيجية روسيا الحالية في غرب إفريقيا من خلال العناصر الأساسية الأربعة التالية:

– ضمان حماية النظام من خلال نشر قوات الفيلق الإفريقي.

– الحصول على امتياز الوصول إلى الموارد الطبيعية.

– الدخول في شراكات طويلة الأمد في مجال البنية التحتية والطاقة مع حكومات ما بعد الانقلابات.

– التقويض العلني للنفوذ الغربي في منطقة كانت خاضعة لهيمنة فرنسا وشركائها لفترة طويلة.

 

وتخدم هذه العناصر أهدافا جيوسياسية أوسع نطاقا، شكلتها تداعيات غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 وما نتج عن ذلك من عزلة.

 

وتتيح دول إفريقية كجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، لموسكو فرصا تجارية، بالإضافة إلى نفوذ دبلوماسي من خلال التصويت في الأمم المتحدة، حيث عمل الدبلوماسيون الروس على إيجاد حلفاء لمواجهة القرارات التي ترعاها القوى الغربية.

 

ويُذكرنا هذا النهج بسياق الحرب الباردة، عندما سعى الاتحاد السوفياتي إلى استقطاب الدول الإفريقية حديثة الاستقلال إلى فلكه، وتوسيع نفوذه من خلال دعم ما يسمى بالحركات “المناهضة للاستعمار” وحركات عدم الانحياز.

 

ويبدو أن اجتماع يونيو 2025 بين فلاديمير بوتين والجنرال عاصيمي غويتا في الكرملين قد أضفى طابعا رسميا على هذا التوافق.

 

وشملت الاتفاقيات الموقعة، التعاون النووي المدني مع شركة روساتوم، والبنية التحتية للطرق والخدمات اللوجستية، والعديد من مشاريع البناء.

 

وفيما تُسهم هذه الاتفاقيات في تحديث البنية التحتية، فإن بعضها يهدف تحديدا إلى تعزيز الحضور المؤسسي الروسي.

 

لقد انتهزت موسكو كل فرصة لإقصاء فرنسا والاتحاد الأوروبي تدريجيا كشريكين مميزين، مقدمة نفسها على أنها المدافع الجديد عن نظام وسيادة إقليمية جديدة، ومنحت مالي لروسيا فرصة اقتصادية لبناء وتشغيل مصفاة ذهب بالقرب من باماكو، معززة بذلك استراتيجية موسكو في دمج العمليات الاقتصادية ضمن تحالفات سياسية آمنة لتمويل آليتها الحربية الضخمة.

 

ويعتبر “الفيلق الإفريقي” المنتشر في مالي والدول المجاورة، هو الضامن لهذه الاتفاقيات، ولا يقتصر دوره على القتال والتدريب، بل يمتد ليشمل حماية عمليات التعدين، والمشاركة في إدارة الأمن الداخلي للدول (الشرطة)، والتعاون المستمر مع الجهات الحكومية الروسية.

 

وفي المقابل، تتلقى الأنظمة الانقلابية دعما خارجيا وحماية شخصية دون أي شروط تتعلق بالديمقراطية أو حقوق الإنسان أو الإصلاح الاقتصادي.

 

إن هذا التموضع الاستراتيجي قادر على أن يُواجه بفعالية التدخل الغربي والأوكراني في المنطقة، مع الإشارة إلى أنه منذ عام 2022، عززت أوكرانيا حضورها الدبلوماسي في إفريقيا بفتح 8 سفارات جديدة، أحدثها في موريتانيا، حيث عرضت تدريبا للقوات المسلحة، وتقديم مساعدات إنسانية للاجئين الماليين في مخيم امبرة.

 

وقد أثارت هذه المبادرات انتقادات من الكرملين، الذي يتهم أوكرانيا بدعم الجهات المتمردة وتقويض الاستقرار الإقليمي.

 

وفي هذا السياق الجيوسياسي، فإن “الفيلق الإفريقي” يعد أداة لإبراز الوجود الروسي في الدول التي قطعت علاقاتها مع شركائها الغربيين، أو التي تنتهج استراتيجية لتنويع شراكاتها وتعاونها.

 

وتُكمّل المبادرات الإعلامية والثقافية، بما في ذلك “المبادرة الإفريقية” هذا الإطار من حيث التأثير والتنافس المعلوماتي.

 

بين الروايات الرسمية وحرب المعلومات

يُعدّ “الفيلق الإفريقي” جزءا من جهاز استراتيجي أوسع لعمليات النفوذ الروسي عالميا، مركزا على خطاب سيادي ومعاد للاستعمار والغرب، يُنفذُ عبر مجموعة من القنوات الإعلامية والدبلوماسية، بالإضافة إلى أساليب أكثر استهدافا للرسائل. وفي قلب هذه العمليات توجد “المبادرة الإفريقية”، وهي منصة موالية للكرملين تُضخم الروايات التي تقدم روسيا كمُحرر للدول الإفريقية من الهيمنة الاستعمارية الجديدة.

 

كما ساهمت “المبادرة الإفريقية” في تعزيز دور “الفيلق الإفريقي” وإضفاء الشرعية عليه في العملية الانتقالية، مُقدّمة إياه كقوة استقرار.

 

ومن خلال المؤتمرات والزيارات الثنائية والرسائل الرسمية، تؤكد “المبادرة الإفريقية” على صورة روسيا كقوة قادرة على “استعادة النظام والكرامة” للدول التي شهدت انقلابات عسكرية.

 

وبعيدا عن المظاهر، تلعب “المبادرة الإفريقية” دورا محوريا في حملة واسعة النطاق تعتبر تضليلا إعلاميا. وقد عضدت هذا الأمر وسائل إعلامية مثل “لوموند” و”فوربيدن ستوريز”، اللتين حققتا في جهود المجموعة (المبادرة الإفريقية) لترسيخ النفوذ على المستوى المحلي.

 

وتتضمن هذه الاستراتيجية تقديم تدريب صحفي في باماكو، وتجنيد طلاب كمراسلين، وتنظيم فعاليات ثقافية مع شخصيات روسية.

 

وتشير التقارير إلى أن المجموعة تعمل بالتنسيق مع أجهزة الاستخبارات الروسية، وتنتج محتوى مصمما خصيصا للجمهور المحلي، وغالبا ما يكون باللغات المحلية بدلا من الفرنسية، كما تُروج لنظرة الكرملين العالمية المعادية للغرب.

 

ويقال في بعض الأحيان، إن صحفيين محليين دعوا إلى روسيا أو حتى إلى المدن الأوكرانية التي تحتلها روسيا، مثل ماريوبول، في إطار جهود بناء الولاء، وتشجيع نشر المعلومات التي تعتبر موالية لروسيا.

 

وبدلا من الاعتماد على التلاعب المزعوم بالمعلومات، أصبحت استراتيجية التضليل المُروج لها أكثر تعقيدا، حيث تمزج حملات وسائل التواصل الاجتماعي بين المعلومات الحقيقية والتأطير الانتقائي.

 

وتشير تقارير إلى أن روسيا تستخدم مؤثرين محليين مدفوعي الأجر لنشر محتوى يلقي باللوم على الدول الغربية في قضية انعدام الأمن بمنطقة الساحل، ويعتبر هذه البلدان مُخربة، بينما يُشيد بالدعم العسكري والدبلوماسي الروسي.

 

وأفادت قناة “DW” الألمانية أن هؤلاء الأفراد المعروفون باسم “الصفارات”، يتم التنسيق معهم عبر تطبيق تليغرام، وغالبا ما يرتبطون بالسفارات الروسية الرسمية أو وسائل الإعلام التابعة لها مثل روسيا اليوم.

 

وبفضل هذه الشبكة، أصبحت “المبادرة الإفريقية” لاعبا رئيسيا في حرب موسكو الإعلامية بغرب إفريقيا، مُشكلة رأيا عاما مؤيدا للأهداف الجيوسياسية الروسية.

 

خاتمة

إن نشر “الفيلق الإفريقي” في منطقة الساحل ليحل محل مجموعة “فاغنر”، يمثل ترسيخا استراتيجيا للنفوذ الروسي، حيث يجمع بين الوجود العسكري المؤسسي، وحرب المعلومات المتطورة.

 

كما أن الانتقال من “فاغنر” وهي كيان شبه مستقل يعمل في منطقة رمادية وكان محل إنكار من الكرملين، إلى “الفيلق الإفريقي” الخاضع لسيطرة وزارة الدفاع الروسية مباشرة والمرتبط بجهاز المخابرات الرئيسي، يلبي العديد من الأهداف. فبعد فشل تمرد “فاغنر” في يونيو 2023 ووفاة زعيمها يفغيني بريغوجين، سعى الكرملين إلى استعادة السيطرة على شبكة أصبحت مكلفة سياسيا وتصعب إدارتها.

 

ويسمح إضفاء الطابع المؤسسي على “الفيلق الإفريقي” لروسيا بتحمل المسؤولية المباشرة عن طموحاته الجيوسياسية، مع إبراز صورة أكثر تماسكا لقوة الدولة في مواجهة المنافسة الغربية والأوكرانية.

 

وتعتمد هذه الاستراتيجية على عمليات تأثير تُدار عبر منصات متنوعة، مثل “المبادرة الإفريقية”، التي تنشر خطابا معاديا للغرب وسياديا عبر وسائل الإعلام المحلية، والمؤثرين الذين يُزعم أنهم مدفوعو الأجر، والمبادرات الثقافية، مثل التدريب الصحفي في باماكو أو زيارات المراسلين لروسيا.

 

وبتقديم روسيا كحليف موثوق ضد “زعزعة الاستقرار الغربي”، توجه موسكو الرأي العام لإضفاء الشرعية على دورها ومواجهة نفوذ فرنسا والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، لا سيما من خلال إدانة المبادرات الدبلوماسية والإنسانية الأوكرانية، مثل فتح سفارات جديدة وتقديم مساعدات للاجئين الماليين.

 

ويأتي تصاعد قوة روسيا هذا في سياق تنافس جيوسياسي متزايد، ما يزيد من مخاطر المواجهات بالوكالة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوكرانيا.

 

وتعكس “المزاعم” الروسية بتورط أوكرانيا في هجمات ضد “الفيلق الإفريقي” مثل كمين “أنومالاني” في يونيو 2025، أن هناك تصعيدا محتملا في الأشهر المقبلة.

 

وبدعمها غير المشروط للأنظمة العسكرية المنبثقة عن الانقلابات، تُضعف روسيا الديناميكيات الديمقراطية وتُفاقم عدم الاستقرار الإقليمي، فيما تتواصل انتهاكات حقوق الإنسان الموروثة من “فاغنر”، مثل عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، والتعذيب، الموثقة في “مورا” عام 2022، مما يؤجج استياء المجتمع.

 

وتعزز هذه الانتهاكات، التي غالبا ما ترتكب دون عقاب، فرص التجنيد من قبل مجموعات مثل “نصرة الإسلام والمسلمين”، التي تستغل المظالم المحلية، مما يُهدد الاستقرار الأمني في منطقة الساحل. ولمواجهة هذه التحديات، ينبغي على دول الساحل، مثل مالي، تنويع شراكاتها لتجنب الاعتماد المفرط على روسيا.

 

ويُعد الحكم الشامل، ودمج المجتمعات المحلية في عمليات السلام، أمرا بالغ الأهمية لتخفيف التوترات العرقية التي تفاقمت بسبب انتهاكات “فاغنر” وعناصر روسية أخرى.

 

كما أن إنشاء آليات إقليمية لمراقبة القوات الأجنبية، مصحوبة بتحقيقات مستقلة في انتهاكات حقوق الإنسان، يمكن أن يحد من الإفلات من العقاب ويعيد الثقة بين السكان وقوات الأمن والدفاع.

 

وأخيرا، فإن من شأن تعزيز التنسيق داخل تحالف دول الساحل، إلى جانب التواصل الشفاف ودعم الإعلام المستقل، أن يسهم في مواجهة التلاعب بالمعلومات من جميع الأطراف.

 

وبدون هذه التعديلات، تخاطر منطقة الساحل بأن تصبح مسرحا دائما للتنافسات والمواجهات بالوكالة، حيث يمكن للنفوذ الروسي المؤسسي المدفوع بـ”الفيلق الإفريقي” وحرب المعلومات العدوانية بين مختلف الجهات الفاعلة، أن يُعمق حالة عدم الاستقرار، ويُعرض آفاق السلام والتنمية للخطر على المدى الطويل.

 

المصدر: معهد تمبكتو التابع للمركز الإفريقي لدراسات السلام – داكار

ترجمة: وكالة الأخبار المستقلة

 

 

الأحدث